أحداث قرية نزلة الجلف بالمنيا ومجلسها العرفي ونتائجه نوع من الاذلال المصري أخطر من اذلال كانوسا الفرنسي !
لماذا تحجم الدولة عن إذاعة حقائق ماجرى هناك، رغم سعيها لتطوير التليفزيون والصحافة !
نسمع من الأستاذ هيكل عن استخدامه لقانون حرية المعلومات الأميركي منذ الثمانينات، ونقابة الصحفيين مازالت تطالب باصدار هذا القانون حتى الآن !
غرام المسلم بمسيحية لماذا هو أمر هين مقارنة بحب مسيحية لمسلم؟! ياداهية دقي!!
من هو مؤلف القلوب ومقلبها ايها الناس؟ أليس هو الله؟ فلماذا لا تناجوه - جل جلاله - بدلا من معاقبة المغرمين والمحبين؟
المواجهات الأمنية لاتكفي .. فشلت وحدها في اقتلاع جذور التطرف والارهاب ومع هذا لايزال ملف التأخون والتأسلم والطائفية سوسًا ينخر في عظام المجتمع !
يحسب للنظام الحالي وضع نهاية لجريمة "الخط الهمايوني" ودعم وإنشاء الكنائس لكن تبقي المشكلة في الطائفية والعنصرية المجتمعية!
قدمت اعتذارًا واضحًا قبل يومين، لأصدقائي الأقباط عما جري في القرية إياها، التي رغم فداحة ماجري فيها، لم يكن اسمها ليعلق بالذاكرة، مثل الكشح، ومثل سيدة الكرم، ولا حاجة لي لأشرح ماجري للأولي ولا للثانية.. لكني بحاجة لأن أتنفس، فما جرى قبل أيام، في تلك القرية المنكوبة (نزلة الجلف) يضيق الخلق والصدر، حتى لكأنك لا تستطيع التنفس. حرفيًا لاتستطيع التنفس، فأنت لايخطر لك على بال، أن تقف عربات الأمن المركزي على مبعدة آلاف الأميال من هذه القرية، دون أن تفكر في أن تنزل اليها وتبسط سيطرتها علي الأوضاع ومجريات الأمور أولا ، وليكن ما يكون، وليحدث بعدها ما يحدث، ولو كان انعقاد مجلس عرفي من تلك النوعية التي استقر في الأذهان أنها تنتهي بالأحضان والقبلات و" تبويس اللحى"، فيما تبقى عوامل الحريق بلا إطفاء حقيقي!
الحريق مشتعل منذ زمن، لم يفلح معه تبويس لحى ولا آر بي جي ولا كلاشينكوف ولا هراوات، ولا دراسات ولا أبحاث ! تقرير الحالة الدينية الصادر عن الأهرام اعتبارًا من العام ١٩٩٥ وشارك فيه قامات بحثية، برئاسة تحرير نبيل عبد الفتاح، وشارك فيه باحثون لمعوا فيما بعد (من وزن عمار على حسن) قدم تأصيلا لقضايا الأقلية القبطية في مصر، كما أن روزا اليوسف في ملفاتها القديمة المتجددة - وفي القلب منها الزميل الصحفي آسامة سلامة - ناقشت ملف الأقباط باستفاضة، وناضل المفكر القبطي كمال زاخر من أجل قضية المواطنة سنوات طوال ومازال، ونفس الشيء يفعله جمال أسعد، ومع هذا يظل الملف جرحًا نازفا لم يوسّد آبدًا لأهله. غالبا مايتولاه ضباط مخابرات وأمن دولة، ومهمتهم الأولى ضرب حصار حول القضية المطروحة، بحيث لايخرج أي كلام من قلب الحدث يتواءم مع حقيقة الأحداث ومجريات الأمور كما عاصرها الناس، وإنما لابد أن يكون متسقًا مع محاضر الجلسات العرفية التي هي بديل لتدخل ووجود الدولة بشحمها ولحمها!
ليست مشكلة أن تتم سيطرة الدولة اولاً وتفرض هيبتها، ثم يأتي بعد ذلك الحل على وقع فرض سيطرتها وهيبتها. هذا الملف القبطي - الإسلامي القديم المتفجر دومًا، لايمكن ان تظل معالجته بهذه السطحية وبلا عمق، وفي الوقت نفسه من دون مكاشفة، ومن دون حقائق تعلن على الناس. الإدانة هنا عميقة جدًا، كيف تكون القنوات الإعلامية تحت سيطرة الدولة والشركة المتحدة، ولا تأمر محرريها "اللي قرفينا" ليلًا ونهارًا بخزعبلات ما أنزل الله بها من سلطان، بالنزول إلى القرية الملتهبة، التي شهدت "جريمة حب" بين شاب وفتاة من معتقد ديني مختلف؟ الولد مسيحي وتلك أم الجرائم .. كيف يعشق ويحب مسلمة؟ (الوضع المعكوس يختلف طبعًا!) أجرم صاحبنا باستغلال ما أعطاه الله له من قلب يحب - ويكره - وجينات وأشياء تجعل فتاة مثل حبيبته المسلمة تقع في غرامه! كيف "ياداهية دقي".. لابد أن يعاقب؟ فلماذا لا تعاقبوا مقلب القلوب ومؤلفها؟ أليس الله سبحانه هو مؤلف القلوب وهو مقلبها؟ هل تجرؤون على الاعتراض عليه وعلى تكوينه للبشر؟
كيف سمحتم لأنفسكم بهذه العنصرية؟ وكيف سمحتم لأنفسكم بهذا التناقض الصارخ في الدستور، ففي ديباجته الأصلية ينص على رفض التمييز بين المواطنين على آساس الدين أو الجنس أو اللون أو المعتقد، وفي الوقت نفسه هذا الدستور يميز في نصوصه بين المسلمين والأقباط، انظروا نص المادة الثانية التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الآساسي للتشريع ! فماذا يفعل المسيحيون!!
النظام الجديد بعد الثورة الينايرية العظيمة في الأصل - لا في النتيجة - استطاع أن يحل مشكلات الخط الهمايوني المريعة التي كانت الداء العضال الذي يعاني منه الأقباط، وبموجبه لا يستطيعون ان يأتوا بسباك لإصلاح حنفية "بتخر ميه عمال على بطال" من دون موافقة رسمية ! الآن هناك كنائس تشيد بموافقة ودعم الدولة، وهذا لم يكن مسموحا أو معمولا به في عصر سابق، ولكن المشكلة ليست في "تسريب الحنفيات" ولا انتهاء قرارات متعسفة كانت تمنع بناء الكنائس الجديدة، وإنما المشكلة في البشر! فلم يتغيروا ولن يتغيروا في المستقبل المنظور بمثل هذه السياسات العقيمة.. نعم عقيمة وليغضب الغاضبون، ففي الملف الديني ترتكب السلطات جريمة مع سبق الإصرار والتعمد، ولا تعبأ للتاريخ ولا للأرشيف ولا لآي شيء.. مطلقًا، هي آصوات وجهود ذهبت عبثًا. فقط يهتمون ويعبأون بـ"تستيف" الدفاتر وإغلاق المحاضر ودشت الملفات! يحدث هذا في قضايا الإرهاب الإخواني، وفي الملف القبطى، وخاصة الملف الطائفي! الأصوات التي حاربت في هذه الملفات ذهبت في الهواء!
كيف تكون ميادين القاهرة المهمة (مثلًا) مسيطر عليها بعربات مجهزة للتعامل مع أي خروج على القانون، في حين أن ماجري في القرية إياها يتم على وقع المجالس العرفية! لماذا نترك الأحداث الطائفية الخطيرة لمثل هذه المعالجات التي يرفضها الناس مسلموهم ومسيحيوهم؟ من هو الذي يحق له في قرية وقعت فيها واقعة "حب" كالتي أصبحت حديث الناس والميديا، أن يحكم على أهل الشاب المسيحي الذي - أغوى أو أغري أو عشق حتى! - أحب فتاة مسلمة، بالتهجير من قريته، وأن يُذَل وأسرته - إذلالاً أسوأ من إذلال كانوسا (وفيه قام البابا غريغوري بإصدار قرار حرمان" لـ"الملك هنري الرابع" ملك فرنسا، ومنعه لأكثر من ثلاثة أيام من دخول قلعة كانوسا، وفرض عليه أن يأتيه جاثيًا على ركبتيه، معتذرا عن مابدر منه بشأن موافقة البابا على تنصيبه ملكا، والحرمان يعني لعنة البابا وإخراجه من الكنيسة، وذلك في أثناء ذروة الخضوع لسلطتها) وهو اشهر إذلال كنسي في التاريخ، لكننا هذه المرة أمام إذلال مسيحي هو الأعنف في الزمن الحديث، حيث فرض مجلس عرفي - يضم "كبارات" قرية "نزلة الجلف" بغرامة - كما تردد - قدرها مليون جنيه، وفضلًا عن ذلك تهجير أسرة الشاب المسيحي الذي تجرأ قلبه وأغرم بفتاة مسلمة!
عندي صديق شماس كان زميلا لي في كلية الآداب جامعة عين شمس قسم التاريخ، أغرم بفتاة مسلمة، وواجها نفس المصاعب، ودافعت الفتاة المسلمة عن اختيار قلبها وفَرّت مع حبيب القلب، ومكثا لبعض الوقت هاربين من الجحيم المجتمعي، ثم سافرا إلى الخارج، وهناك تزوجا زواجا مدنيا، وبعد سنوات قلائل عادا ليعيشا في مجتمع متسامح، لم ينشغل بديانتهما أو بمذهبهما او بأي شيء، ومع تمتع صديقي باليسر المالي، توفرت له حياة كريمة، وعاش مع زوجته وأولاده، بل إنه انخرط في السلك الكنسي، وآخر عهدي به أنه أصبح شماسا في دير كبير معروف وله إسمه!
ليعقد مجلس عرفي - ولي ملاحظات على مجالس عرفية كانت تعقد في وجه بحري، كان يختار قضاتها بشكل لا تتوافر فيهم الضمانات الكافية للنقاش والتحقيق والوصول إلى حقيقة موقف يتم على أساسه إصدار أحكام عادلة، بل أحيانا ما يتم النكوص بالاتفاقات، وحتي لو كتبت شيكات كنوع من الغرامة المسبقة على أطراف النزاع ضمانا لتنفيذ الأحكام، فقد يقوم من يحوز الشيكات بخيانة الأمانة، إلى الحد الذي قد يقوم فيه بتسليم الشيكات لمن سيتم تغريمهم!
لا أعرف هل يحدث أمر كهذا في الصعيد، لكن الذي أعرفه أن المجالس العرفية في بعض مناطق الوجه البحري لا تتم برعاية الدولة، أما في الصعيد فيقول لى أحد المستشارين المرموقين واحد الكتاب الكبار انه يتم بحضور العمدة، وان محاضر الصلح يوقع عليها المأمور!
كيف يتم اختيار العمدة؟ ومن هو المأمور الذي يكون لتوقيعه قوة القانون؟ من الأساس هناك خطأ فادح في هذا الموقف الذي حدث في القرية، فقد كان واجبًا قبل المجلس العرفي أن تنزل قوة شرطية كبيرة تفرض الهدوء والسلام على طرفي النزاع مهما كانت قوة أحد الطرفين، وبعد فرض هيبة الدولة وإبراز وجودها، يمكن أن تصدر على وقع وجود الدولة وسلطاتها مبادرات للصلح، لا يتم معها الجور والتمييز بين الطرفين! ليس معقولا أن تفرض قوة متغلبة على أقلية إذلالا من نوع اذلال كانوسا الذي اشرت إليه! مليون جنيه غرامة وتهجير العائلة من القرية! تأملوا مثل هذا الحكم! لو أن القضية تتعلق بشق سياسي هل كانت السلطة تسمح بمثل هذا العبث والجور؟! يقينا لا ! وفي رأي لأحد الأصدقاء ان العمدة هو ممثل الدولة في هذا اللقاء! والحقيقة أن العمودية فقدت كثيرًا من هيبتها ورونقها منذ زمن طويل وعودتها بعد غياب لم تكن تعني شيئا!
وهناك رآي يقول أن هذه المجالس العرفية لها قوة القانون وتحل مايعجز عنه غيرها، وأنها استخدمت كثيرًا في الفترات السابقة لحل مشكلات مماثلة، ويشدد صاحب الرآي على أنه ليس لدينا معلومات متوافرة حول ماجرى في القرية ولا في المجلس ولا الغرامات والنتائج المترتبة عليها! هناك اتفاق على أنه رغم كل هذه الأحداث الجسام التي هددت الأمن والسكينة والسلم الاجتماعي، أن المعلومات التي رشحت عن المشكلة وحلول المجلس العرفي قليلة جدًا!
نعم كل مارشح عن القضية رغم خطورتها قليل جدًا في معلوماته، وللأسف الشديد أنه رغم محاولات استعادة دور التليفزيون ورغم رغبة الهيئة الوطنية للصحافة في تطوير الصحافة والصحفيين، فأن أحدًا لم يوجّه لكي يقدم لنا تقريرًا معلوماتيا عما جرى ومحاولات الدولة فرض هيبتها وسيطرتها على الملف الطائفي بكل احتقاناته!
لم يكلف أحد من المراسلين - بلاش كبار المحررين! - بإعداد تقرير معلومات.. نصف الحل يكمن في توضيح الحقائق ! ولكن هيهات، كان الأستاذ هيكل في ثمانينات القرن الماضي يستخدم قانون حرية المعلومات الأميركي - عبر أصدقاء أميركيين - للحصول على معلومات ووثائق، ومنذ تسعينيات القرن الماضي وحتي المؤتمر العام الأخير لنقابة الصحفيين فإن واحدًا من أهم توصياته الإسراع بتشريع قانون يضمن إتاحة المعلومات للصحفيين، كأحد أهم أدوات تطوير المهنة في مصر!
توصيات بتشريع قانون حرية المعلومات، لأننا أصبحنا لاندري ماذا يجري، وفي المقابل فإن كل اجتهاد يقع تحت طائلة قانون يتهم بنشر وإذاعة أخبار كاذبة! فأولًا أين هي المعلومات الصحيحة!وذلك على الرغم من أن احكام محكمة النقض لاتلزم الصحفي بنشر الأدلة التي يملكها على صحة المعلومات التي يوردها، ويكفي أن يشير إليها فقط، لكن في العصر الحديث انقلبت الآية، وأصبحت مواد القانون وتفسيراته سيفًا مسلطًا على الصحفيين!
تطور المجتمع يحتاج إلى عمل وجهد وتضحيات، ولو فرضت الدولة حماية للشاب وأسرته، وحتى لو حدث مالا يحمد عقباه لا قدر الله، فإننا نكون حققنا أول خطوة في مواجهة الفعل الطائفي البغيض، الذي أراه مؤشرًا على قوة الدولة وصرامتها في تطبيق القانون، فهذا اهم من بناء الكنائس وإصلاح مواسير صرفها الصحي والسباكة الخربة فيها، وانتهاء مشكلات الخط الهمايوني المفجعة، والتي يحسب للسلطات الحالية انتهاؤها إلى غير رجعة.
الطائفية البغيضة ملف خارق حارق، تماما مثل ملف التسلف وملف الأخونة الذي يهددنا حتى اليوم، لأنه ليس بالمواجهات الأمنية وحدها نتخلص من الطائفية والتأسلم المزيف!" عاوزين نشتغل صح مرة واحدة بقا"!!
------------------------------
بقلم: محمود الشربيني






